فصل: تفسير الآيات رقم (43- 49)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 49‏]‏

‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏43‏)‏ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏46‏)‏ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏48‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

الاستفهام في‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏ للإنكار من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث وقع منه الإذن لما استأذنه في القعود قبل أن يتبين من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه، ومن هو كاذب فيه‏.‏ وفي ذكر العفو عنه صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا عتاب له صلى الله عليه وسلم في إذنه للمنافقين بالخروج معه، لا في إذنه لهم بالقعود عن الخروج‏.‏ والأوّل‏:‏ أولى، وقد رخص له سبحانه في سورة النور بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏ ويمكن أن يجمع بين الآيتين بأن العتاب هنا متوجه إلى الإذن قبل الاستثبات حتى يتبين الصادق من الكاذب، والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الإستثبات، والله أعلم‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنكَ‏}‏ هي افتتاح كلام كما تقول‏:‏ أصلحك الله، وأعزّك ورحمك، كيف فعلت كذا، وكذا حكاه مكي والنحاس، والمهدوي، وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على عفا الله عنك، وعلى التأويل الأوّل‏:‏ لا يحسن‏.‏ ولا يخفاك أن التفسير الأوّل هو المطابق لما يقتضيه اللفظ على حسب اللغة العربية، ولا وجه لإخراجه عن معناه العربي‏.‏ وفي الآية دليل على جواز الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، والمسألة مدوّنة في الأصول، وفيها أيضاً دلالة على مشروعية الاحتراز عن العجلة، والاغترار بظواهر الأمور، و«حتى» في ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ‏}‏ للغاية، كأنه قيل‏:‏ لم سارعت إلى الإذن لهم؛ وهلا تأنيث حتى يتبين لك صدق من هو صادق منهم في العذر الذي أبداه، وكذب من هو كاذب منهم في ذلك‏؟‏

ثم ذكر سبحانه أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود عن الجهاد، بل كان من عادتهم أنه صلى الله عليه وسلم إذا أذن لواحد منهم بالقعود شق عليه ذلك‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يجاهدوا‏}‏ وهذا على أن معنى لآية أن لا يجاهدوا على حذف حرف النفي؛ وقيل المعنى‏:‏ لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد؛ وقيل‏:‏ إن معنى الاستئذان في الشيء الكراهة له، وأما على ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى‏:‏ لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد، بل دأبهم أن يبادروا إليه من غير توقف ولا ارتقاب منهم، لوقوع الإذن منك فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏أن يجاهدوا‏}‏ في موضع نصب بإضمار في‏:‏ أي في أن يجاهدوا‏:‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بالمتقين‏}‏ وهم هؤلاء الذين لم يستأذنوا ‏{‏إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ‏}‏ في القعود عن الجهاد، والتخلف عنه‏:‏ ‏{‏الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر‏}‏ وهم‏:‏ المنافقون، وذكر الإيمان بالله أوّلا، ثم باليوم الآخر ثانياً في الموضعين، لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وارتابت قُلُوبُهُمْ‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏الذين لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ وجاء بالماضي للدلالة على تحقق الريب في قلوبهم، وهو‏:‏ الشك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ‏}‏ أي‏:‏ في شكهم الذي حلّ بقلوبهم يتحيرون، والتردّد‏:‏ التحير‏.‏ والمعنى‏:‏ فهؤلاء الذين يستأذنونك ليسوا بمؤمنين، بل مرتابين حائرين لا يهتدون إلى طريق الصواب، ولا يعرفون الحق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لاعَدُّواْ لَهُمْ عِدَّةَ‏}‏ أي‏:‏ لو كانوا صادقين فيما يدّعونه ويخبرونك به من أنهم يريدون الجهاد معك، ولكن لم يكن معهم من العدّة للجهاد ما يحتاج إليه، لما تركوا إعداد العدّة وتحصيلها قبل وقت الجهاد، كما يستعدّ لذلك المؤمنون، فمعنى هذا الكلام‏:‏ أنهم لم يريدوا الخروج أصلاً ولا استعدّوا للغزو‏.‏ والعدّة ما يحتاج إليه المجاهد من الزاد والراحلة والسلاح‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم‏}‏ أي‏:‏ ولكن كره الله خروجهم، فتثبطوا عن الخروج، فيكون المعنى‏:‏ ما خرجوا ولكن تثبطوا، لأن كراهة الله انبعاثهم تستلزم تثبطهم عن الخروج، والانبعاث‏:‏ الخروج، أي حبسهم الله عن الخروج معك وخذلهم، لأنهم قالوا‏:‏ إن لم يؤذن لنا في الجلوس، أفسدنا وحرّضنا على المؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة، ولكن ما أرادوه لكراهة الله له قوله‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين‏}‏ قيل‏:‏ القائل لهم هو الشيطان بما يلقيه إليهم من الوسوسة، وقيل‏:‏ قاله بعضهم لبعض‏.‏ وقيل‏:‏ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو عبارة عن الخذلان، أي أوقع الله في قلوبهم القعود خذلاناً لهم‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏مَعَ القاعدين‏}‏ أي‏:‏ مع أولي الضرر من العميان، والمرضى، والنساء، والصبيان، وفيه من الذمّ لهم والإزراء عليهم والتنقص بهم ما لا يخفى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً‏}‏ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن تخلف المنافقين، والخبال‏:‏ الفساد والنميمة، وإيقاع الاختلاف والأراجيف‏.‏ قيل‏:‏ هذا الاستثناء منقطع، أي ما زادوكم قوّة، ولكن طلبوا الخبال‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ لا يزيدونكم فيما تردّدون فيه من الرأي إلا خبالاً فيكون متصلاً‏.‏ وقيل‏:‏ هو استثناء من أعمّ العام‏:‏ أي ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً‏.‏ فيكون الاستثناء من قسم المتصل؛ لأن الخبال من جملة ما يصدق عليه الشيء‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولأَوْضَعُواْ خلالكم يَبْغُونَكُمُ الفتنة‏}‏ الإيضاع‏:‏ سرعة السير، ومنه قوله ورقة بن نوفل‏:‏

يا ليتني فيها جذع *** أخبّ فيها وأضع

يقال‏:‏ أوضع البعير‏:‏ إذا أسرع السير‏.‏ وقيل‏:‏ الإيضاع‏:‏ سير الخبب، والخلل‏:‏ الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال‏:‏ أي الفرج التي تكون بين الصفوف‏.‏

والمعنى‏:‏ لسعوا بينكم بالإفساد بما يختلقونه من الأكاذيب المشتملة على الإرجاف والنمائم الموجبة لفساد ذات البين‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَبْغُونَكُمُ الفتنة‏}‏ يقال‏:‏ بغيته كذا‏:‏ طلبته له، وأبغيته كذا‏:‏ أعنته على طلبه‏.‏ والمعنى‏:‏ يطلبون لكم الفتنة في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد‏.‏ وقيل‏:‏ الفتنة هنا الشرك‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي والحال أنّ فيكم من يستمع ما يقولونه من الكذب، فينقله إليكم فيتأثر من ذلك الاختلاف بينكم، والفساد لإخوانكم ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏ وبما يحدث منهم لو خرجوا معكم، لذلك اقتضت حكمته البالغة أن لا يخرجوا معكم، وكره انبعاثهم معكم، ولا ينافي حالهم هذا لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقدّم من عتابه على الإذن لهم في التخلف؛ لأنه سارع إلى الإذن لهم، ولم يكن قد علم من أحوالهم لو خرجوا أنهم يفعلون هذه الأفاعيل، فعوتب صلى الله عليه وسلم على تسرّعه إلى الإذن لهم قبل أن يتبين له الصادق منهم في عذره من الكاذب، ولهذا قال الله سبحانه فيما يأتي في هذه السورة‏:‏ ‏{‏فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 83‏]‏ الآية، وقال في سورة الفتح‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قُل لَّن تَتَّبِعُونَا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ لقد طلبوا الإفساد والخبال وتفريق كلمة المؤمنين وتشتيت شملهم من قبل هذه الغزوة التي تخلفوا عنك فيها‏.‏ كما وقع من عبد الله بن أبيّ وغيره ‏{‏ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور‏}‏ أي‏:‏ صرّفوها من أمر إلى أمر، ودبروا لك الحيل والمكائد، ومنه قول العرب حوّل قلب إذا كان دائراً حول المكائد والحيل، يدير الرأي فيها ويتدبره‏.‏ وقرئ «وقلبوا» بالتخفيف ‏{‏حتى جَاء الحق‏}‏ أي‏:‏ إلى غاية هي مجيء الحق، وهو النصر لك والتأييد ‏{‏وَظَهَرَ أَمْرُ الله‏}‏ بإعزاز دينه، وإعلاء شرعه، وقهر أعدائه‏.‏ وقيل‏:‏ الحق‏:‏ القرآن ‏{‏وَهُمْ كارهون‏}‏ أي‏:‏ والحال أنهم كارهون لمجيء الحق وظهور أمر الله، ولكن كان ذلك على رغم منهم ‏{‏وَمِنْهُمُ‏}‏ أي‏:‏ من المنافقين ‏{‏مَن يِقُولُ‏}‏ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏ائذن لّي‏}‏ في التخلف عن الجهاد ‏{‏وَلاَ تَفْتِنّى‏}‏ أي‏:‏ لا توقعني في الفتنة، أي الإثم، إذا لم تأذن لي فتخلفت بغير إذنك؛ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ لا توقعني في الهلكة بالخروج ‏{‏أَلا فِى الفتنة سَقَطُواْ‏}‏ أي‏:‏ في نفس الفتنة سقطوا، وهي‏:‏ فتنة التخلف عن الجهاد، والاعتذار الباطل‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم ظنوا أنهم بالخروج أو بترك الإذن لهم يقعون في الفتنة، وهم بهذا التخلف سقطوا في الفتنة العظيمة‏.‏

وفي التعبير بالسقوط ما يشعر بأنهم وقعوا فيها وقوع من يهوى من أعلى إلى أسفل، وذلك أشدّ من مجرّد الدخول في الفتنة، ثم توعدهم على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين‏}‏ أي‏:‏ مشتملة عليهم من جميع الجوانب لا يجدون عنها مخلصاً، ولا يتمكنون من الخروج منها بحال من الأحوال‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف، وابن جرير عن عمرو بن ميمون، قال‏:‏ اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء‏:‏ إذنه للمنافقين، وأخذه من الأسارى، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عون بن عبد الله، قال‏:‏ ما سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا‏؟‏ بدأ بالعفو قبل المعاتبة‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنكَ‏}‏ الآية قال‏:‏ ناس قالوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أذن لكم، فاقعدوا‏.‏ وإن لم يأذن لكم، فاقعدوا‏.‏ وأخرج النحاس في ناسخه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏ الثلاث الآيات، قال‏:‏ نسخها‏:‏ ‏{‏فَإِذَا استذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه، عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله‏}‏ الآية قال‏:‏ هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر، وعذر الله المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عنه، أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَأْذِنُكَ‏}‏ الآيتين قال‏:‏ نسختها الآية التي في سورة النور‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ إلى ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏ فجعل الله النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى النظرين في ذلك، من غزا غزا في فضيلة، ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء الله‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم‏}‏ قال‏:‏ خروجهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏فَثَبَّطَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ حبسهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً‏}‏ قال‏:‏ هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏ولأَوْضَعُواْ خلالكم‏}‏ قال‏:‏ لأسرعوا بينكم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏ولأَوْضَعُوا خلالكم‏}‏ قال‏:‏ لأرفضوا ‏{‏يَبْغُونَكُمُ الفتنة‏}‏ يبطئونكم‏:‏ عبد الله بن نبتل، وعبد الله بن أبيّ ابن سلول، ورفاعة بن تابوت، وأوس بن قيظي ‏{‏وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ‏}‏ محدّثون لهم بأحاديثكم غير منافقين، وهم عيون للمنافقين‏.‏

وأخرج ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، عن ابن عباس، قال‏:‏ لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك، قال لجدّ بن قيس‏:‏ «يا جدّ بن قيس، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر‏؟‏» فقال‏:‏ يا رسول الله، إني امرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن، فأذن لي ولا تفتني، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله، نحوه‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن عائشة، نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَفْتِنّى‏}‏ قال‏:‏ لا تخرجني ‏{‏أَلا فِى الفتنة سَقَطُواْ‏}‏ يعني‏:‏ في الخروج‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَفْتِنّى‏}‏ قال‏:‏ لا تؤثمني ‏{‏أَلا فِى الفتنة‏}‏ قال‏:‏ ألا في الإثم، وقصة تبوك مذكورة في كتب الحديث والسير فلا نطول بذكرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 57‏]‏

‏{‏إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ‏(‏50‏)‏ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ‏(‏52‏)‏ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏54‏)‏ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏55‏)‏ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ‏(‏56‏)‏ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ‏}‏ أيّ‏:‏ حسنة كانت بأيّ سبب اتفق، كما يفيده وقوعها في حيز الشرط، وكذلك القول في المصيبة، وتدخل الحسنة والمصيبة الكائنة في القتال كما يفيده السياق دخولاً أوّلياً، فمن جملة ما تصدق عليه الحسنة‏:‏ الغنيمة والظفر‏.‏ ومن جملة ما تصدق عليه المصيبة‏:‏ الخيبة والانهزام، وهذا ذكر نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم، والإخبار بعظيم عدوانهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فإن المساءة بالحسنة، والفرح بالمصيبة من أعظم ما يدلّ على أنهم في العداوة قد بلغوا إلى الغاية، ومعنى ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏‏:‏ رجعوا إلى أهلهم عن مقامات الاجتماع، ومواطن التحدّث حال كونهم فرحين بالمصيبة التي أصابت المؤمنين، ومعنى قولهم‏:‏ ‏{‏قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ احتطنا لأنفسنا، وأخذنا بالحزم، فلم نخرج إلى القتال كما خرج المؤمنون حتى نالهم ما نالهم من المصيبة‏.‏

ثم لما قالوا هذا القول أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا‏}‏ أي‏:‏ في اللوح المحفوظ، أو في كتابه المنزّل علينا، وفائدة هذا الجواب أن الإنسان إذا علم أن ما قدّره الله كائن، وأن كل ما ناله من خير أو شرّ إنما هو بقدر الله وقضائه، هانت عليه المصائب، ولم يجد مرارة شماتة الأعداء وتشفي الحسدة ‏{‏هُوَ مولانا‏}‏ أي‏:‏ ناصرنا وجاعل العاقبة لنا، ومظهر دينه على جميع الأديان، والتوكل على الله تفويض الأمور إليه؛ والمعنى‏:‏ أن من حق المؤمنين أن يجعلوا توكلهم مختصاً بالله سبحانه، لا يتوكلون على غيره‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏"‏ يصيبنا ‏"‏ بتشديد الياء‏.‏ وقرأ أعين قاضي الري «يصيبنا» بنون مشدّدة‏.‏ وهو لحن لان الخبر لا يؤكد‏.‏ وردّ بمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه لا يصيبنا إلا ما اختصنا الله من النصرة عليكم أو الشهادة‏.‏ وعلى هذا القول يكون قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الحسنيين‏}‏ تكريراً لغرض التأكيد، والأوّل‏:‏ أولى حتى يكون كل واحد من الجوابين اللذين أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عليهم بهما مفيداً لفائدة غير فائدة الآخر، والتأسيس خير من التأكيد‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الحسنيين‏}‏‏:‏ هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخصلتين الحسنيين‏:‏ إما النصرة أو الشهادة، وكلاهما مما يحسن لدينا، والحسنى‏:‏ تأنيث الأحسن، ومعنى الاستفهام‏:‏ التقريع والتوبيخ ‏{‏وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ‏}‏ إحدى المساءتين لكم‏:‏ إما ‏{‏أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ‏}‏ أي‏:‏ قارعة نازلة من السماء، فيسحتكم بعذابه، ‏{‏أَوْ‏}‏ بعذاب لكم ‏{‏بِأَيْدِينَا‏}‏ أي‏:‏ بإظهار الله لنا عليكم بالقتل والأسر والنهب والسبي‏.‏

والفاء في ‏{‏فتربصوا‏}‏ فصيحة، والأمر للتهديد كما في قوله‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏ أي تربصوا بنا ما ذكرنا من عاقبتنا فنحن معكم متربصون ما هو عاقبتكم، فستنظرون عند ذلك ما يسرّنا ويسوؤكم‏.‏ وقرأ البزي وابن فليح «هل تربصون» بإظهار اللام وتشديد التاء‏.‏ وقرأ الكوفيون بإدغام اللام في التاء‏.‏ وقرأ الباقون بإظهار اللام وتخفيف التاء‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ‏}‏ هذا الأمر معناه الشرط والجزاء، لأن الله سبحانه لا يأمرهم بما لا يتقبله منهم‏.‏ والتقدير‏:‏ إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يتقبل منكم؛ وقيل‏:‏ هو أمر في معنى الخبر‏:‏ أي أنفقتم طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ وفيه الإشعار بتساوي الأمرين في عدم القبول، وانتصاب طوعاً أو كرهاً على الحال، فهما مصدران في موقع المشتقين‏:‏ أي أنفقوا طائعين من غير أمر من الله ورسوله، أو مكرهين بأمر منهما‏.‏ وسمي الأمر منهما إكراهاً لأنهم منافقون لا يأتمرون بالأمر‏.‏ فكانوا بأمرهم الذي لا يأتمرون به كالمكرهين على الإنفاق، أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو مكرهين منهم، وجملة ‏{‏إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين‏}‏ تعليل لعدم قبول إنفاقهم، والفسق‏:‏ التمرّد والعتوّ، وقد سبق بيانه لغة وشرعاً‏.‏

ثم بين سبحانه السبب المانع من قبول نفقاتهم فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ‏}‏ أي‏:‏ كفرهم بالله وبرسوله جعل المانع من القبول ثلاثة أمور‏:‏ الأوّل‏:‏ الكفر، الثاني‏:‏ أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل؛ لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، فصلاتهم ليست إلا رياء للناس وتظهراً بالإسلام الذي يبطنون خلافه، والثالث‏:‏ أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون، ولا ينفقونها طوعاً لأنهم يعدّون إنفاقها وضعا لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم‏}‏ الإعجاب بالشيء‏:‏ أن يسرّ به سروراً راض به متعجب من حسنه، قيل‏:‏ مع نوع من الافتخار، واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تستحسن ما معهم من الأموال والأولاد‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا‏}‏ بما يحصل معهم من الغمّ والحزن عند أن يغنمها المسلمون، ويأخذوها قسراً من أيديهم مع كونها زينة حياتهم وقرّة أعينهم، وكذا في الآخرة يعذبهم بعذاب النار بسبب عدم الشكر لربهم الذي أعطاهم ذلك، وترك ما يجب عليهم من الزكاة فيها، والتصدق بما يحق التصدق به‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى‏:‏ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة لأنهم منافقون، فهم ينفقون كارهين، فيعذبون بما ينفقون‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون‏}‏ الزهوق‏:‏ الخروج بصعوبة، والمعنى‏:‏ أن الله يريد أن تزهق أنفسهم وتخرج أرواحهم حال كفرهم لعدم قبولهم لما جاءت به الأنبياء وأرسلت به الرسل، وتصميمهم على الكفر وتماديهم في الضلالة‏.‏

ثم ذكر الله سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين، فقال‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من جملتكم في دين الإسلام، والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكتاب الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم مّنكُمْ‏}‏ في ذلك إلا بمجرّد ظواهرهم دون بواطنهم ‏{‏ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ‏}‏ أي‏:‏ يخافون أن ينزل بهم ما نزل بالمشركين من القتل والسبي، فيظهرون لكم الإسلام تقية منهم لا عن حقيقة ‏{‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ‏}‏ يلتجئون إليه ويحفظون نفوسهم فيه منكم من حصن أو غيره ‏{‏أَوْ مغارات‏}‏ جمع مغارة من غار يغير‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ويجوز أن يكون من أغار يغير، والمغارات‏:‏ الغيران والسراديب، وهي‏:‏ المواضع التي يستتر فيها، ومنه غار الماء وغارت العين؛ والمعنى‏:‏ لو وجدوا أمكنة يغيبون فيها أشخاصهم هرباً منكم ‏{‏أَوْ مُدَّخَلاً‏}‏ من الدخول‏:‏ أي مكاناً يدخلون فيه من الأمكنة التي ليست مغارات‏.‏ قال النحاس‏:‏ الأصل فيه متدخل قلبت التاء دالاً، وقيل أصله‏:‏ مدتخل‏.‏ وقرأ أبيّ‏:‏ «متدخلاً» وروى عنه أنه قرا «مندخلا» بالنون‏.‏ وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق، وابن محيصن «أو مدخلاً» بفتح الميم وإسكان الدال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويقرأ «أو مدخلاً» بضم الميم وإسكان الدال‏.‏ وقرأ الباقون بتشديد الدال مع ضم الميم ‏{‏لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ لالتجئوا إليه وأدخلوا أنفسهم فيه والحال أنهم ‏{‏يَجْمَحُون‏}‏ أي يسرعون إسراعاً لا يردّهم شيء، من جمح الفرس‏:‏ إذا لم يردّه اللجام، ومنه قول الشاعر‏:‏

سبوح جموح وإحضارها *** كمعمعة السعف الموقد

والمعنى‏:‏ لو وجدوا شيئاً من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هرباً من المسلمين‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن جابر بن عبد الله، قال‏:‏ جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء يقولون‏:‏ إن محمداً وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبيّ وأصحابه، فساءهم ذلك فأنزل الله ‏{‏إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج سنيد، وابن جرير، عن ابن عباس ‏{‏إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ إن يصبك في سفرك هذه الغزوة- تبوك- حسنة تسؤهم قال‏:‏ الجد وأصحابه، يعني‏:‏ الجد بن قيس‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ‏:‏ ‏{‏قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا‏}‏ قال‏:‏ إلا ما قضى الله لنا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال‏:‏ ‏{‏هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الحسنيين‏}‏ قال‏:‏ فتح أو شهادة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ بِأَيْدِينَا‏}‏ قال‏:‏ القتل بالسيوف‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال الجد بن قيس‏:‏ إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ولكن أعينك بمالي، قال‏:‏ ففيه نزلت ‏{‏قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم‏}‏ قال‏:‏ هذه من تقاديم الكلام، يقول‏:‏ لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، قال‏:‏ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون‏}‏ قال‏:‏ تزهق أنفسهم في الحياة الدنيا ‏{‏وَهُمْ كافرون‏}‏ قال‏:‏ هذه آية فيها تقديم وتأخير‏.‏ وأخرج أبو حاتم، وأبو الشيخ عن الضحاك، في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُعْجِبْكَ‏}‏ يقول‏:‏ لا يغرنك ‏{‏وَتَزْهَقَ‏}‏ قال‏:‏ تخرج أنفسهم، قال في الدنيا وهم كافرون‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ‏}‏ الآية قال‏:‏ الملجأ‏:‏ الحرز في الجبال، والمغارات‏:‏ الغيران، والمدّخل‏:‏ السرب‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ ‏{‏وَهُمْ يَجْمَحُونَ‏}‏ قال‏:‏ يسرعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ‏(‏59‏)‏ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ‏}‏ هذا ذكر نوع آخر قبائحهم، يقال‏:‏ لمزه يلمزه‏:‏ إذا عابه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ اللمز‏:‏ العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، وقد لمزه يلمزه ويلمزه، ورجل لماز، ولمزة‏:‏ أي عياب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لمزت الرجل ألِمزه وأُلمزه، بكسر الميم وضمها‏:‏ إذا عبته، وكذا همزته‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ ومن المنافقين من يعيبك في الصدقات، أي في تفريقها وقسمتها‏.‏ وروى عن مجاهد أنه قال‏:‏ معنى ‏{‏يَلْمِزُكَ‏}‏‏:‏ يرزؤك ويسألك، والقول عند أهل اللغة هو الأوّل، كما قال النحاس‏.‏ وقرئ «يلمزك» بضم الميم، و«يلمزك» بكسرها مع التشديد‏.‏ وقرأ الجمهور بكسرها مخففة ‏{‏فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ من الصدقات بقدر ما يريدون ‏{‏رَضُواْ‏}‏ بما وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعيبوه، وذلك لأنه لا مقصد لهم إلا حطام الدنيا، وليسوا من الدين في شيء ‏{‏وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا‏}‏ أي‏:‏ من الصدقات ما يريدونه ويطلبونه ‏{‏إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ‏}‏ أي‏:‏ وإن لم يعطوا فاجئوا السخط، وفائدة إذا الفجائية‏:‏ أن الشرط مفاجئ للجزاء وهاجم عليه‏.‏ وقد نابت إذا الفجائية مناب فاء الجزاء‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ‏}‏ أي‏:‏ ما فرضه الله لهم وما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات، وجوب «لو» محذوف‏:‏ أي لكان خيراً لهم، فإن فيما أعطاهم الخير العاجل والآجل ‏{‏وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ‏}‏ أي‏:‏ قالوا هذه المقالة عند أن أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو لهم‏:‏ أي كفانا الله، سيعطينا من فضله، ويعطينا رسوله بعد هذا ما نرجوه ونؤمله ‏{‏إِنَّا إِلَى الله راغبون‏}‏ في أن يعطينا من فضله ما نرجوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء‏}‏ لما لمز المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بيّن الله لهم مصرفها دفعاً لطعنهم، وقطعاً لشغبهم، و‏{‏إِنَّمَا‏}‏ من صيغ القصر، وتعريف الصدقات للجنس‏:‏ أي جنس هذه الصدقات مقصور على هذه الأصناف المذكورة لا يتجاوزها، بل هي لهم لا لغيرهم‏.‏

وقد اختلف أهل العلم هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية، أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة‏؟‏ فذهب إلى الأوّل الشافعي وجماعة من أهل العلم، وذهب إلى الثاني‏:‏ مالك وأبو حنيفة، وبه قال عمر، وحذيفة، وابن عباس، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران‏.‏ قال ابن جرير وهو قول عامة أهل العلم‏:‏ احتج الأوّلون بما في الآية من القصر، وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال‏:‏ أعطني من الصدقة، فقال له‏:‏

«إن الله لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو لبيان الصرف والمصرف، لا لوجوب استيعاب الأصناف، وبأن في إسناد الحديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف‏.‏ ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271‏]‏ والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة‏.‏ وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها في فقرائكم» وقد ادّعى مالك الإجماع على القبول الآخر‏.‏ قال ابن عبد البرّ‏:‏ يريد إجماع الصحابة، فإنه لا يعلم له مخالفاً منهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء‏}‏ قدمهم، لأنهم أحوج من البقية على المشهور لشدّة فاقتهم وحاجتهم‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال‏:‏ فقال يعقوب بن السكيت، والقتيبي، ويونس ابن حبيب‏:‏ إن الفقير أحسن حالاً من المسكين، قالوا‏:‏ لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه‏.‏ والمسكين الذي لا شيء له، وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة‏.‏ وقال آخرون بالعكس، فجعلوا المسكين أحسن حالاً من الفقير، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏‏.‏ فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر‏.‏ وربما ساوت جملة من المال، ويؤيده تعوّذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفقر مع قوله‏:‏ «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً» وإلى هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة‏.‏ وحكاه الطحاوي عن الكوفيين، وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي، وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف‏.‏ وقال قوم‏:‏ الفقير المحتاج المتعفف، والمسكين‏:‏ السائل‏.‏ قاله الأزهري، واختاره ابن شعبان، وهو مرويّ عن ابن عباس‏.‏ وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة يعتدّ بها‏.‏ والأولى في بيان ماهية المسكين‏:‏ ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان»، قالوا‏:‏ فما المسكين يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدّق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً» قوله‏:‏ ‏{‏والعاملين عَلَيْهَا‏}‏ أي‏:‏ السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة، فإنهم يستحقون منها قسطاً‏.‏

وقد اختلف في القدر الذي يأخذونه منها، فقيل‏:‏ الثمن‏.‏ روي ذلك عن مجاهد والشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ على قدر أعمالهم من الأجرة، روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه‏.‏ وقيل‏:‏ يعطون من بيت المال قدر أجرتهم‏.‏ روي ذلك عن مالك، ولا وجه لهذا، فإن الله قد أخبر بأن لهم نصيباً من الصدقة فكيف يمنعون منها ويعطون من غيرها‏؟‏ واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل هاشمياً أم لا‏؟‏ فمنعه قوم، وأجازه آخرون‏.‏ قالوا‏:‏ ويعطى من غير الصدقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والمؤلفة قُلُوبُهُمْ‏}‏ هم قوم كانوا في صدر الإسلام، فقيل‏:‏ هم الكفار الذين كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتألفهم ليسلموا‏.‏ وكانوا لا يدخلون في الإسلام بالقهر والسيف، بل بالعطاء‏.‏ وقيل‏:‏ هم قوم أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسلامهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطاء؛ وقيل‏:‏ هم من أسلم من اليهود والنصارى، وقيل‏:‏ هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع، أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليتألفوا أتباعهم على الإسلام‏.‏ وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم جماعة ممن أسلم ظاهراً كأبي سفيان بن حرب، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل تألفهم بذلك، وأعطى آخرين دونهم‏.‏

وقد اختلف العلماء هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور الإسلام أم لا‏؟‏ فقال عمر، والحسن، والشعبي‏:‏ قد انقطع هذا الصنف بعزّة الإسلام وظهوره، وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي‏:‏ وقد ادّعى بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك‏.‏ وقال جماعة من العلماء‏:‏ سهمهم باق لأن الإمام ربما احتاج أن يتألف على الإسلام‏.‏ وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين‏.‏ قال يونس‏:‏ سألت الزهري عنهم فقال‏:‏ لا أعلم نسخ ذلك، وعلى القول الأول يرجع سهمهم لسائر الأصناف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ أي في فك الرقاب بأن يشتري رقاباً ثم يعتقها‏.‏ روي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وبه قال مالك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق وأبو عبيد‏.‏ وقال الحسن البصري، ومقاتل ابن حيان، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، والنخعي، والزهري، وابن زيد‏:‏ إنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي، ورواية عن مالك، والأولى حمل ما في الآية على القولين جميعاً لصدق الرقاب على شراء العبد وإعتاقه، وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والغارمين‏}‏ هم‏:‏ الذين ركبتهم الديون ولا وفاء عندهم بها، ولا خلاف في ذلك إلا من لزمه دين في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب‏.‏ وقد أعان النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَفِى سَبِيلِ الله‏}‏ هم الغزاة والمرابطون، يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء، وهذا قول أكثر العلماء‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ هم الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله‏.‏ وقال أبو حنيفة وصاحباه‏:‏ لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيراً منقطعاً به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وابن السبيل‏}‏ هو‏:‏ المسافر، والسبيل الطريق، ونسب إليها المسافر لملازمته إياها، والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقرّه، فإنه يعطى منها وإن كان غنياً في بلده، وإن وجد من يسلفه‏.‏ وقال مالك‏:‏ إذا وجد من يسلفه فلا يعطى‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَرِيضَةً مّنَ الله‏}‏ مصدر مؤكد؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء‏}‏ معناه‏:‏ فرض الله الصدقات لهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أن كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف هو حكم لازم فرضه الله على عباده ونهاهم عن مجاوزته ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بأحوال عباده ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ في أفعاله؛ وقيل‏:‏ إن ‏{‏فريضة‏}‏ منتصبة بفعل مقدّر، أي فرض الله ذلك فريضة‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ فإن قلت‏:‏ لم عدل عن اللام إلى «في» في الأربعة الآخرة‏؟‏ قلت‏:‏ للإيذان بأنها أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره؛ وقيل‏:‏ النكتة في العدول أن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى ينصرفوا به كما شاءوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة، كذا قيل‏.‏

وقد أخرج البخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التيمي فقال‏:‏ اعدل يا رسول الله، فقال‏:‏ ‏"‏ ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل‏؟‏ ‏"‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ائذن لي فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ‏"‏ الحديث حتى قال‏:‏ وفيهم نزلت‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ‏}‏ قال‏:‏ يرزؤك ويسألك‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن قتادة قال‏:‏ يطعن عليك‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود قال‏:‏ لما قسم النبيّ صلى الله عليه وسلم غنائم حنين، سمعت رجلاً يقول‏:‏ إن هذه لقسمة ما أريد بها الله، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكرت ذلك له، فقال‏:‏ ‏"‏ رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ‏"‏، ونزل ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات‏}‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، قال‏:‏ نسخت هذه الآية كل صدقة في القرآن ‏{‏إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن حذيفة، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء‏}‏ الآية قال‏:‏ إن شئت جعلتها في صنف واحد من الأصناف الثمانية التي سمى الله أو صنفين أو ثلاثة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن أبي العالية، والحسن، وعطاء، وإبراهيم، وسعيد بن جبير، نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والنحاس، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال‏:‏ الفقير الذي به زمانة، والمسكين‏:‏ المحتاج الذي ليس به زمانة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن عمر، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء‏}‏ قال‏:‏ هم زمني أهل الكتاب‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏والعاملين عَلَيْهَا‏}‏ قال‏:‏ السعاة أصحاب الصدقة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏والمؤلفة قُلُوبُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا، وكان يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيراً قالوا‏:‏ هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه‏.‏ وأخرج البخاري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أبي سعيد، قال‏:‏ بعث عليّ بن أبي طالب من اليمن إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بذهيبة فيها تربتها، فقسمها بين أربعة من المؤلفة‏:‏ الأقرع بن حابس الحنظلي وعلقمة بن علاثة العامري، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الخيل الطائي؛ فقالت قريش والأنصار‏:‏ يقسم بين صناديد أهل نجد ويدعنا‏؟‏ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما أتألفهم‏.‏» وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الزهري أنه سئل عن المؤلفة قلوبهم قال‏:‏ من أسلم من يهودي أو نصرانيّ، قلت‏:‏ وإن كان موسراً‏؟‏ قال‏:‏ وإن كان موسراً‏.‏ وأخرج هؤلاء عن أبي جعفر قال‏:‏ ليس اليوم مؤلفة قلوبهم‏.‏ وأخرج هؤلاء أيضاً عن الشعبي مثله‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل، في قوله‏:‏ ‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ قال‏:‏ هم المكاتبون‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن النخعي، نحوه‏.‏ وأخرج أيضاً عن عمر بن عبد الله قال‏:‏ سهم الرقاب نصفان‏:‏ نصف لكل مكاتب ممن يدّعي الإسلام، والنصف الآخر يشتري به رقاب ممن صلى وصام، وقدم إسلامه من ذكر وأنثى، يعتقون لله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو عبيد، وابن المنذر، عن ابن عباس، أنه كان لا يرى بأساً أن يعطى الرجل من زكاته في الحج، وأن يعتق منها رقبة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن الزهري، أنه سئل عن الغارمين قال‏:‏ أصحاب الدين‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي جعفر، في قوله‏:‏ ‏{‏والغارمين‏}‏ قال‏:‏ هو الذي يسأل في دم أو جائحه تصيبه ‏{‏وَفِى سَبِيلِ الله‏}‏ قال‏:‏ هم المجاهدون ‏{‏وابن السبيل‏}‏ قال‏:‏ المنقطع به يعطى قدر ما يبلغه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ ابن السبيل هو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تحلّ الصدقة لغنيّ إلا لخمسة‏:‏ العامل عليها، أو الرجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدّق عليه فأهدى منها لغنيّ» وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود، والترمذي، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ «لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لذي مرة سوى» وأخرج أحمد، عن رجل من بني هلال، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود، والنسائي عن عبد الله بن عدي بن الجيار، قال‏:‏ أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين، فقال‏:‏ «إن شئتما أعطيتكما ولا حظّ فيها لغنيّ ولا لقويّ مكتسب»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 66‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏61‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ‏(‏63‏)‏ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏65‏)‏ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمُ‏}‏ هذا نوع آخر بما حكاه الله من فضائح المنافقين وقبائحهم، وذلك أنهم كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم، على وجه الطعن والذم ‏{‏هو أذن‏}‏‏.‏ قال الجوهري‏:‏ يقال‏:‏ رجل أذن‏:‏ إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع ومرادهم، أقمأهم الله، أنهم إذا آذوا النبيّ وبسطوا فيه ألسنهم‏.‏ وبلغه ذلك اعتذروا له، وقبل ذلك منهم، لأنه يسمع كل ما يقال له، فيصدّقه، وإنما أطلقت العرب على من يسمع ما يقال له فيصدّقه أنه أذن مبالغة، لأنهم سموه بالجارحة التي هي آلة السماع، حتى كأن جملته أذن سامعة، ونظيره قولهم‏:‏ للربيئة عين، وإيذاؤهم له هو قولهم‏:‏ ‏{‏هُوَ أُذُنٌ‏}‏ لأنهم نسبوه إلى أنه يصدّق كل ما يقال له، ولا يفرق بين الصحيح والباطل، اغتراراً منهم بحلمه عنهم، وصفحه عن جناياتهم كرماً وحلماً وتغاضياً، ثم أجاب الله عن قولهم هذا، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ‏}‏ بالإضافة على قراءة الجمهور‏.‏ وقرأ الحسن بالتنوين، وكذا قرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه، كأنه قيل‏:‏ نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن هو، لكونه أذن خير لكم، وليس بأذن في غير ذلك‏.‏ كقولهم رجل صدق، يريدون الجودة والصلاح‏.‏ والمعنى أنه يسمع الخير ولا يسمع الشرّ‏.‏ وقرئ «أذن» بسكون الذال وضمها‏.‏ ثم فسر كونه أذن خير بقوله‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ يصدّق بالله ويصدّق المؤمنين لما علم فيهم من خلوص الإيمان‏.‏ فتكون اللام في ‏{‏لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ للتقوية، كما قال الكوفيون، أو متعلقة بمصدر محذوف، كما قال المبرد‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ بالرفع عطف على أذن‏.‏ وقرأ حمزة بالخفض عطفاً على خير‏.‏ والمعنى على القراءة الأولى‏:‏ هو أنه أذن خير، وأنه هو رحمة للمؤمنين، وعلى القراءة الثانية‏:‏ أنه أذن خير وأذن رحمة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا عند أهل العربية بعيد، يعني‏:‏ قراءة الجر لأنه قد تباعد بين الاسمين، وهذا يقبح في المخفوض‏.‏ والمعنى‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أذن خير للمنافقين ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ لهم حيث لم يكشف أسرارهم ولا فضحهم، فكأنه قال‏:‏ هو أذن كما قلتم لكنه أذن خير لكم لا أذن سوء، فسلم لهم قولهم فيه إلا أنه فسرّه بما هو مدح له وثناء عليه، وإن كانوا قصدوا به المذمة والتقصير بفطنته‏.‏ ومعنى ‏{‏لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ‏}‏ أي‏:‏ الذين أظهروا الإيمان وإن لم يكونوا مؤمنين حقيقة ‏{‏والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله‏}‏ بما تقدّم من قولهم‏:‏ هو أذن، ونحو ذلك مما يصدق عليه أنه أذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ شديد الألم‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة «ورحمة للمؤمنين» بالنصب على أنها علة لمعلل محذوف‏:‏ أي ورحمة لكم يأذن لكم‏.‏

ثم ذكر أن من قبائح المنافقين إقدامهم على الإيمان الكاذبة، فقال‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ‏}‏ والخطاب للمؤمنين‏.‏ وذلك أن المنافقين كانوا في خلواتهم يطعنون على المؤمنين، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بلغ ذلك إلى رسول الله وإلى المؤمنين جاء المنافقون فحلفوا على أنهم لم يقولوا ما بلغ عنهم قاصدين بهذه الأيمان الكاذبة‏:‏ أن يرضوا رسول الله ومن معه من المؤمنين، فنعى الله ذلك عليهم‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ أي‏:‏ هما أحق بذلك من إرضاء المؤمنين بالإيمان الكاذبة، فإنهم لو اتقوا الله وآمنوا به وتركوا النفاق لكان ذلك أولى لهم، وإفراد الضمير في ‏{‏يرضوه‏}‏ إما للتعظيم للجناب الإلهيّ بإفراده بالذكر، أو لكونه لا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله‏.‏ فإرضاء الله إرضاء لرسوله؛ أو المراد‏:‏ الله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، كما قال سيبويه، ورجحه النحاس، أو لأن الضمير موضوع موضع اسم الإشارة؛ فإنه يشار به إلى الواحد والمتعدّد، أو الضمير راجع إلى المذكور، وهو يصدق عليهما‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ ورسوله أحق أن يرضوه‏.‏ ‏{‏والله‏}‏ افتتاح كلام، كما تقول‏:‏ ما شاء الله وشئت، وهذه الجملة أعني‏:‏ ‏{‏والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ في محل نصب على الحال، وجواب ‏{‏إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ محذوف‏:‏ أي إن كانوا مؤمنين فليرضوا الله ورسوله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ‏}‏‏.‏ قرأ الحسن، وابن هرمز، ‏"‏ ألم تعلموا ‏"‏ بالفوقية‏.‏ وقرأ الباقون بالتحتية‏:‏ والمحاددة‏:‏ وقوع هذا في حد‏.‏ وذلك في حد كالمشاققة‏:‏ يقال حادّ فلان فلاناً‏:‏ أي صار في حدّ غير حده ‏{‏فإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ‏}‏ قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي فحق أن له نار جهنم‏.‏ وقال الخليل وسيبويه‏:‏ إن «أن» الثانية مبدلة من الأولى، وزعم المبرد أن هذا القول مردود، وأن الصحيح ما قال الجرمي أن الثانية مكرّرة للتوكيد لما طال الكلام‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ المعنى‏:‏ فوجوب النار له، وأنكره المبرد وقال‏:‏ هذا خطأ من أجل أن «أن» المفتوحة المشدّدة لا يبتدأ بها ويضمر الخبر‏.‏ وقرئ بكسر الهمزة‏.‏ قال سيبويه، وهي قراءة جيدة، وأنشد‏:‏

وإني إذا ملت ركابي مناخها *** فإني على حظي من الأمر جامح

وانتصاب ‏{‏خالداً‏}‏ على الحال‏.‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما ذكر من العذاب، وهو مبتدأ وخبره ‏{‏الخزى العظيم‏}‏ أي‏:‏ الخزي البالغ إلى الغاية التي لا يبلغ إليها غيره، وهو الذلّ والهوان‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ‏}‏ قيل‏:‏ هو خبر وليس بأمر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ ليحذر‏.‏ فالمعنى على القول الأوّل‏:‏ أن المنافقين كانوا يحذرون نزول القرآن فيهم‏.‏

وعلى الثاني‏:‏ الأمر لهم بأن يحذروا ذلك، و‏{‏أن تنزل‏}‏ في موضع نصب‏:‏ أي من أن تنزل، ويجوز على قول سيبويه أن يكون في موضع خفض على تقدير «من» وإعمالها‏.‏ ويجوز أن يكون النصب على المفعولية‏.‏ وقد أجاز سيبويه‏:‏ حذرت زيداً، وأنشد‏:‏

حذر أموراً لا تضير وآمن *** ما ليس ينجيه من الأقدار

ومنع من النصب على المفعولية المبرد‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ على المؤمنين في شأن المنافقين، على أن الضمير للمؤمنين، والأولى أن يكون الضمير للمنافقين‏:‏ أي في شأنهم ‏{‏تُنَبّئُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ المنافقين ‏{‏بِمَا فِي قُلُوبِهِم‏}‏ مما يسرّونه فضلاً عما يظهرونه، وهم وإن كانوا عالمين بما في قلوبهم، فالمراد من إنباء السورة لهم إطلاعهم على أن المؤمنين قد علموا بما في قلوبهم، ثم أمر الله رسوله بأن يجيب عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ‏}‏ هو أمر تهديد‏:‏ أي افعلوا الاستهزاء، إن الله مخرج ما تحذرون من ظهوره حتى يطلع عليه المؤمنون، إما بإنزال سورة، أو بإخبار رسوله بذلك أو نحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏}‏ أي‏:‏ لئن سألتهم عما قالوه من الطعن في الدين، وثلب المؤمنين بعد أن يبلغ إليك ذلك، ويطلعك الله عليه، ليقولنّ إنما كنا نخوض ونلعب، ولم نكن في شيء من أمرك ولا أمر المؤمنين‏.‏ ثم أمره الله أن يجيب عنهم فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أبالله وءاياته وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ‏}‏ والاستفهام‏:‏ للتقريع والتوبيخ، وأثبت وقوع ذلك منهم، ولم يعبأ بإنكارهم، لأنهم كانوا كاذبين في الإنكار، بل جعلهم كالمعترفين بوقوع ذلك منهم حيث جعل المستهزأ به، والباء لحرف النفي، فإن ذلك إنما يكون بعد وقوع الاستهزاء وثبوته، ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ تَعْتَذِرُواْ‏}‏ نهياً لهم عن الاشتغال بالاعتذارات الباطنة، فإن ذلك غير مقبول منهم‏.‏ وقد نقل الواحدي عن أئمة اللغة‏:‏ أن معنى الاعتذار‏:‏ محو أثر الذنب وقطعه، من قولهم‏:‏ اعتذر المنزل‏:‏ إذا درس، واعتذرت المياه‏:‏ إذا انقطعت ‏{‏قَدْ كَفَرْتُمْ‏}‏ أي أظهرتم الكفر بما وقع منكم من الاستهزاء المذكور ‏{‏بَعْدَ إيمانكم‏}‏ أي بعد إظهاركم الإيمان، مع كونكم تبطنون الكفر ‏{‏إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ‏}‏ وهم من أخلص الإيمان، وترك النفاق، وتاب عنه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الطائفة في اللغة‏:‏ الجماعة‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ويطلق لفظ الجمع على الواحد عند العرب ‏{‏نُعَذّبْ طَائِفَةً‏}‏ بسبب ‏{‏أَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏ مصرّين على النفاق، لم يتوبوا منه‏.‏ قرئ ‏{‏نعذب‏}‏ بالنون وبالتاء الفوقية على البناء للمفعول وبالتحتية على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال‏:‏ كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجلس إليه فيسمع منه، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال لهم‏:‏ إنما محمد أذن، من حدثه بشيء صدقه، فأنزل الله فيه‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، قال‏:‏ اجتمع ناس من المنافقين فيهم‏:‏ جلاس بن سويد ابن صامت، ومخشي بن حمير، ووديعة بن ثابت، فأرادوا أن يقعوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنهى بعضهم بعضاً وقالوا‏:‏ إنا نخاف أن يبلغ محمداً فيقع بكم، فقال بعضهم‏:‏ إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا، فنزل‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ أُذُنٌ‏}‏ يعني‏:‏ أنه يسمع من كل أحد‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ يصدّق بالله ويصدّق المؤمنين‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن عساكر، وابن مردويه، عن عمير بن سعد، قال‏:‏ فيّ أنزلت هذه الآية ‏{‏وَيَقُولُونَ هُمْ أَذِنَ‏}‏ وذلك أن عمير بن سعد كان يسمع أحاديث أهل المدينة، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فيسارّه حتى كانوا يتأذون بعمير بن سعد، وكرهوا مجالسته، وقال‏:‏ ‏{‏هو أذن‏}‏ فأنزلت فيه‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، قال‏:‏ ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال‏:‏ والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، ولئن كان ما يقول محمد حقاً لهم شرّ من الحمير، فسمعها رجل من المسلمين فقال‏:‏ والله إن ما يقول محمد لحق ولأنت شرّ من الحمار، فسعى بها الرجل إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال‏:‏ «ما حملك على الذي قلت‏؟‏» فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول‏:‏ اللهم صدق الصادق، وكذب الكاذب، فأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ مثله، وسمى الرجل المسلم عامر بن قيس من الأنصار‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ يقول‏:‏ يعادي الله ورسوله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏يَحْذَرُ المنافقون‏}‏ الآية قال‏:‏ يقولون القول فيما بينهم، ثم يقولون عسى الله أن لا يفشى علينا هذا‏.‏ وأخرج أبو نعيم في الحلية، عن شريح بن عبيد، أن رجلاً قال لأبي الدرداء‏:‏ يا معشر القراء ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم، وأعظم لقماً إذا أكلتم‏؟‏ فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يردّ عليه بشيء، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال ذلك، فقال بثوبه وخنقه وقاده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل‏:‏ إنما كنا نخوض ونلعب، فأوحى الله نبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عبد الله بن عمر، قال‏:‏ قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوماً‏:‏ ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس‏:‏ كذبت ولكنك منافق، لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن‏.‏ قال عبد الله‏:‏ فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله، والحجارة تنكبه وهو يقول‏:‏ يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏{‏أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ‏}‏‏.‏ وأخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والعقيلي في الضعفاء، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب، في رواية مالك عن ابن عمر، فقال‏:‏ رأيت عبد الله بن أبيّ وهو يشتد قدّام النبي صلى الله عليه وسلم والأحجار تنكبه وهو يقول‏:‏ يا محمد إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏{‏أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في الآية قال‏:‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين، فقالوا‏:‏ أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها‏؟‏ هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «احبسوا على هؤلاء الركب»، فأتاهم فقال‏:‏ «قلتم كذا»، قالوا‏:‏ يا نبيّ الله، إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون‏.‏ وقد روي نحو هذا من طرق عن جماعة من الصحابة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ‏}‏ قال‏:‏ الطائفة‏:‏ الرجل والنفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 70‏]‏

‏{‏الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏67‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏68‏)‏ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ‏}‏ ذكر هاهنا جملة أحوال المنافقين، وأن ذكورهم في ذلك كإناثهم، وأنهم متناهون في النفاق والبعد عن الإيمان، وفيه إشارة إلى نفي أن يكونوا من المؤمنين، وردّ لقولهم‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ‏}‏، ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادّة حالهم لحال المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُونَ بالمنكر‏}‏ وهو كل قبيح عقلاً أو شرعاً ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف‏}‏ وهو كل حسن عقلاً أو شرعاً قال الزجاج‏:‏ هذا متصل بقوله‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 56‏]‏ أي ليسوا من المؤمنين، ولكن بعضهم من بعض‏:‏ أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ‏{‏وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يشحون فيما ينبغي إخراجه من المال في الصدقة، والصلة والجهاد، فالقبض كناية عن الشحّ، كما أن البسط كناية عن الكرم‏.‏ والنسيان الترك‏:‏ أي تركوا ما أمرهم به، فتركهم من رحمته وفضله، لأن النسيان الحقيقي لا يصح إطلاقه على الله سبحانه، وإنما أطلق عليه هنا من باب المشاكلة المعروفة في علم البيان، ثم حكم عليهم بالفسق‏:‏ أي الخروج عن طاعة الله إلى معاصيه، وهذا التركيب يفيد أنهم هم الكاملون في الفسق‏.‏ ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر بأنه ‏{‏نَارُ جَهَنَّمَ‏}‏ و‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ حال مقدّرة‏:‏ أي مقدّرين الخلود؛ وفي هذه الآية دليل على أن وعد يقال في الشر، كما يقال في الخير‏:‏ ‏{‏هِىَ حَسْبُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ كافيتهم لا يحتاجون إلى زيادة على عذابها، «و» مع ذلك فقد ‏{‏لَّعَنَهُمُ الله‏}‏ أي‏:‏ طردهم وأبعدهم من رحمته ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ نوع آخر من العذاب دائم لا ينفك عنهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏كالذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ شبه حال المنافقين بالكفار الذين كانوا من قبلهم ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب، والكاف محلها رفع على خبرية مبتدأ محذوف‏:‏ أي أنتم مثل الذين من قبلكم، أو محلها نصب‏:‏ أي فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم من الأمم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ التقدير وعد الله الكفار نار جهنم وعداً كما وعد الذين من قبلكم؛ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحذف المضاف‏.‏ ثم وصف حال أولئك الكفار الذين من قبلهم، وبين وجه تشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم بأنهم كانوا أشدّ من هؤلاء المنافقين والكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا فاستمتعوا‏}‏ أي‏:‏ تمتعوا ‏{‏بخلاقهم‏}‏ أي‏:‏ نصيبهم الذي قدّره الله لهم من ملاذ الدنيا، ‏{‏فاستمعتم‏}‏ أنتم ‏{‏بخلاقكم‏}‏ أي‏:‏ نصيبكم الذي قدّره الله لكم ‏{‏كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم‏}‏ أي‏:‏ انتفعتم به كما انتفعوا به، والغرض من هذا التمثيل ذمّ هؤلاء المنافقين والكفار بسبب مشابهتهم لمن قبلهم من الكفار، في الاستمتاع بما رزقهم الله‏.‏

وقد قيل‏:‏ ما فائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق في حقّ الأولين مرّة، ثم في حقّ المنافقين ثانياً، ثم تكريره في حقّ الأوّلين ثالثاً‏؟‏ وأجيب بأنه تعالى ذمّ الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا، وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ، فلما قرّر تعالى هذا عاد فشبه حال المنافقين بحالهم، فيكون ذلك نهاية في المبالغة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ‏}‏ معطوف على ما قبله‏:‏ أي كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوا‏.‏ وقيل‏:‏ أصله كالذين فحذفت النون، والأولى أن يقال إن الذي اسم موصول مثل من وما، يعبر به عن الواحد والجمع، يقال‏:‏ خضت الماء‏:‏ أخوضه خوضاً وخياضاً، والموضع مخاضة، وهو ما جاز الناس فيه مشاة وركباناً، وجمعها المخاض والمخاوض‏.‏ ويقال منه‏:‏ خاض القوم في الحديث، وتخاوضوا فيه، أي تفاوضوا فيه‏.‏ والمعنى‏:‏ خضتم في أسباب الدنيا، واللهو واللعب‏.‏ وقيل‏:‏ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، أي دخلتم في ذلك، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إلى المتصفين بهذه الأوصاف من المشبهين، والمشبه بهم ‏{‏حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ أي‏:‏ بطلت، والمراد بالأعمال ما عملوه مما هو في صورة طاعة، لا هذه الأعمال المذكورة هنا فإنها من المعاصي، ومعنى ‏{‏فِى الدنيا والآخرة‏}‏ أنها باطلة على كل حال‏:‏ أما بطلانها في الدنيا فلأنّ ما يترتب على أعمالهم فيها لا يحصل لهم بل يصير ما يرجونه من الغنى فقراً، ومن العزّ ذلاً، ومن القوّة ضعفاً‏.‏ وأما في الآخرة فلأنهم يصيرون إلى عذاب النار، ولا ينتفعون بشيء مما عملوه من الأعمال التي يظنونها طاعة وقربة ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ أي‏:‏ المتمكنون في الخسران الكاملون فيه في الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ المنافقين ‏{‏نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ خبرهم الذي له شأن، وهو ما فعلوه وما فعل بهم، ولما شبه حالهم بحالهم فيما سلف على الإجمال في المشبه بهم، ذكر منهم ههنا ست طوائف قد سمع العرب أخبارهم، لأن بلادهم وهي الشام قريبة من بلاد العرب، فالاستفهام للتقرير، وأوّلهم‏:‏ قوم نوح، وقد أهلكوا بالإغراق، وثانيهم‏:‏ قوم عاد، وقد أهلكوا بالريح العقيم، وثالثهم‏:‏ قوم ثمود، وقد أخذوا بالصيحة، ورابعهم‏:‏ قوم إبراهيم، وقد سلط الله عليهم البعوض، وخامسهم‏:‏ أصحاب مدين، وهم قوم شعيب، وقد أخذتهم الرجفة، وسادسهم‏:‏ أصحاب المؤتفكات، وهي قرى قوم لوط، وقد أهلكهم الله بما أمطر عليهم من الحجارة؛ وسميت مؤتفكات؛ لأنها انقلبت بهم حتى صار عاليها سافلها، والائتفاك‏:‏ الانقلاب ‏{‏أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات‏}‏ أي‏:‏ رسل هذه الطوائف الست‏.‏ وقيل‏:‏ رسل أصحاب المؤتفكات؛ لأن رسولهم لوط وقد بعث إلى كل قرية من قراهم رسولاً، والفاء في ‏{‏فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ‏}‏ للعطف على مقدّر يدل عليه الكلام‏:‏ أي فكذبوهم، فأهلكهم الله فما ظلمهم بذلك؛ لأنه قد بعث إليهم رسله فأنذروهم وحذروهم ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بسبب ما فعلوه من الكفر بالله، وعدم الانقياد لأنبيائه، وهذا التركيب يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان مستمراً‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُونَ بالمنكر‏}‏ قال‏:‏ هو التكذيب، قال‏:‏ وهو أنكر المنكر ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف‏}‏ شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وهو أعظم المعروف‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ لا يبسطونها بنفقة في حق‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ تركوا الله فتركهم من كرامته وثوابه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏كالذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ صنيع الكفار، كالكفار‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال‏:‏ ما أشبه الليلة بالبارحة ‏{‏كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ‏}‏ هؤلاء بنو إسرائيل أشبهناهم، والذي نفسي بيده لنتبعنهم حتى لو دخل رجل جحر ضب لدخلتموه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏بخلاقهم‏}‏ قال‏:‏ بدينهم‏.‏ وأخرجا أيضاً عن أبي هريرة قال الخلاق‏:‏ الدين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏فاستمتعوا بخلاقهم‏}‏ قال‏:‏ بنصيبهم في الدنيا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ‏}‏ قال‏:‏ لعبتم كالذي لعبوا‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏والمؤتفكات‏}‏ قال‏:‏ قوم لوط ائتفكت بهم أرضهم، فجعل عاليها سافلها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ قلوبهم متحدة في التوادد، والتحبابب، والتعاطف بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان بالله، ثم بيّن أوصافهم الحميدة كما بيّن أوصاف من قبلهم من المنافقين فقال‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُونَ بالمعروف‏}‏ أي‏:‏ بما هو معروف في الشرع غير منكر، ومن ذلك توحيد الله سبحانه وترك عبادة غيره ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ أي‏:‏ عما هو منكر في الدين غير معروف، وخصص إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر من جملة العبادات؛ لكونهما الركنين العظيمين فيما يتعلق بالأبدان والأموال، وقد تقدّم معنى هذا‏.‏ ‏{‏وَيُطِيعُونَ الله‏}‏ في صنع ما أمرهم بفعله أو نهاهم عن تركه، والإشارة ب ‏{‏أولئك‏}‏ إلى المؤمنين والمؤمنات المتصفين بهذه الأوصاف، والسين في ‏{‏سَيَرْحَمُهُمُ الله‏}‏ للمبالغة في إنجاز الوعد ‏{‏أَنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ لا يغالب ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ في أقواله وأفعاله‏.‏ ثم ذكر تفصيل ما يدخل تحت الرحمة إجمالاً باعتبار الرحمة في الدار الآخرة، فقال‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ والإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير؛ ومعنى جري الأنهار من تحت الجنات‏:‏ أنها تجري تحت أشجارها وغرفها، وقد تقدّم تحقيقه في البقرة ‏{‏ومساكن طَيّبَةً‏}‏ أي‏:‏ منازل يسكنون فيها من الدرّ والياقوت، و‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ يقال‏:‏ عدن بالمكان‏:‏ إذا أقام به، ومنه‏:‏ المعدن‏.‏ قيل‏:‏ هي أعلى الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ أوسطها، وقيل‏:‏ قصور من ذهب لا يدخلها إلا نبيّ، أو صدّيق، أو شهيد‏.‏ وصف الجنة بأوصاف، الأوّل‏:‏ جري الأنهار من تحتها، والثاني‏:‏ أنهم فيها خالدون، والثالث‏:‏ طيب مساكنها، والرابع‏:‏ أنها دار عدن‏:‏ أي إقامة غير منقطعة، هذا على ما هو معنى عدن لغة‏.‏ وقيل‏:‏ هو علم، والتنكير في ‏{‏رضوان‏}‏ للتحقير، أي ‏{‏ورضوان‏}‏ حقير يستر «من» رضوان ‏{‏الله أَكْبَرُ‏}‏ من ذلك كله الذي أعطاهم الله إياه، وفيه دليل على أنه لا شيء من النعم، وإن جلت وعظمت، يماثل رضوان الله سبحانه، وأن أدنى رضوان منه لا يساويه شيء من اللذات الجسمانية، وإن كانت على غاية ليس وراءها غاية، اللهم ارض عنا، رضا لا يشوبه سخط، ولا يكدّره نكد، يا من بيده الخير كله دقه وجله، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدّم مما وعد الله به المؤمنين والمؤمنات ‏{‏هُوَ الفوز العظيم‏}‏ دون كل فوز مما يعدّه الناس فوزاً‏.‏

وقد أخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُونَ بالمعروف‏}‏ قال‏:‏ يدعون إلى الإيمان بالله ورسوله، والنفقات في سبيل الله، وما كان من طاعة الله ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ عن الشرك والكفر قال‏:‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة من فرائض الله كتبها الله على المؤمنين‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ إخاؤهم في الله يتحابون بجلال الله والولاية لله، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأحاديث ما هو معروف‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن الحسن قال‏:‏ سألت عمران بن حصين، وأبا هريرة عن تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ‏}‏ قالا‏:‏ على الخبير سقطت، سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «قصر من لؤلؤة في الجنة، في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زمرّدة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً، على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون، على كل فراش امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، في كل مائدة سبعون لوناً من كل طعام، في كل بيت سبعون وصيفاً ووصيفة، فيعطى المؤمن من القوة في كل غداة ما يأتي على ذلك كله» وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ قال‏:‏ معدن الرجل الذي يكون فيه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه، قال‏:‏ معدنهم فيها أبداً‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في قوله‏:‏ ‏{‏ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ‏}‏ يعني‏:‏ إذا أخبروا أن الله عنهم راض، فهو أكبر عندهم من التحف والتسنيم‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث أبي سعيد، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله يقول لأهل الجنة‏:‏ يا أهل الجنة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول‏:‏ هل رضيتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ ربنا وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحداً من خلقك، فيقول‏:‏ ألا أعطيكم أفضل من ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ يا ربنا وأيّ شيء أفضل من ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أحلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏73‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجهاد أمر لأمته من بعده، وجهاد الكفار يكون بمقاتلتهم حتى يسلموا‏.‏ وجهاد المنافقين يكون بإقامة الحجة عليهم، حتى يخرجوا عنه ويؤمنوا بالله، وقال الحسن‏:‏ إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم، واختاره قتادة‏.‏ قيل في توجيهه‏:‏ إن المنافقين كانوا أكثر من يفعل موجبات الحدود‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إن هذه دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق دائماً، لا بما تتلبس به الجوارح ظاهراً، وأخبار المحدودين تشهد بسياقتها أنهم لم يكونوا منافقين‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏واغلظ عَلَيْهِمْ‏}‏ الغلظ‏:‏ نقيض الرأفة، وهو شدّة القلب وخشونة الجانب، قيل‏:‏ وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح، ثم ذكر من خصال المنافقين أنهم يحلفون الأيمان الكاذبة، فقال‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ‏}‏‏.‏

وقد اختلف أئمة التفسير في سبب نزول هذه الآية، فقيل نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت، ووديعة بن ثابت، وذلك أنه كثر نزول القرآن في غزوة تبوك في شأن المنافقين وذمهم، فقالا‏:‏ لئن كان محمد صادقاً على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شرّ من الحمير، فقال له عامر بن قيس‏:‏ أجل، والله إن محمداً لصادق مصدّق، وإنك لشرّ من الحمار، وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الجلاس فحلف بالله أن عامراً لكاذب، وحلف عامر لقد قال، وقال‏:‏ اللهم أنزل على نبيك شيئاً فنزلت، وقيل‏:‏ إن الذي سمع ذلك عاصم بن عدي، وقي‏:‏ حذيفة، وقيل‏:‏ بل سمعه ولد امرأته‏:‏ أي امرأة الجلاس، واسمه عمير بن سعد، فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين لما قال‏:‏ ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل‏:‏ «سمن كلبك يأكلك»، و‏{‏لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء عبد الله بن أبيّ، فحلف أنه لم يقله‏.‏ وقيل‏:‏ إنه قول جميع المنافقين، وأن الآية نزلت فيهم، وعلى تقدير أن القائل واحد أو اثنان فنسبة القول إلى جميعهم هي باعتبار موافقة من لم يقل، ولم يحلف من المنافقين لمن قد قال وحلف‏.‏ ثم ردّ الله على المنافقين وكذبهم وبين أنهم حلفوا كذباً، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر‏}‏ وهي ما تقدّم بيانه على اختلاف الأقوال السابقة ‏{‏وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم‏}‏ أي‏:‏ كفروا بهذه الكلمة بعد إظهارهم للإسلام، وإن كانوا كفاراً في الباطن‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم على تقدير صحة إسلامهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ‏}‏ قيل‏:‏ هو همهم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك‏.‏

وقيل‏:‏ هموا بعقد التاج على رأس عبد الله بن أبيّ‏.‏ وقيل‏:‏ هو همّ الجلاس بقتل من سمعه يقول تلك المقالة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ‏}‏ أي‏:‏ وما عابوا وأنكروا إلا ما هو حقيق بالمدح والثناء، وهو إغناء الله لهم من فضله، والاستثناء مفرّغ من أعمّ العامّ، وهو من باب قول النابغة‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهنّ فلول من قراع الكتائب

ومن باب قول الشاعر‏:‏

ما نقموا من بني أمية إلا *** أنهم يحلمون إن غضبوا

فهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم‏.‏ وقد كان هؤلاء المنافقون في ضيق من العيش، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اتسعت معيشتهم، وكثرت أموالهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ أي‏:‏ فإن تحصل منهم التوبة والرجوع إلى الحق يكن ذلك الذي فعلوه من التوبة خيراً لهم في الدين والدنيا، وقد تاب الجلاس بن سويد، وحسن إسلامه، وفي ذلك دليل على قبول التوبة من المنافق والكافر‏.‏

وقد اختلف العلماء في قبولها من الزنديق، فمنع من قبولها مالك وأتباعه، لأنه لا يعلم صحة توبته إذ هو في كل حين يظهر التوبة والإسلام ‏{‏وَإِن يَتَوَلَّوْا‏}‏ أي‏:‏ يعرضوا عن التوبة والإيمان ‏{‏يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا‏}‏ بالقتل والأسر، ونهب الأموال «و» في ‏{‏الآخرة‏}‏ بعذاب النار ‏{‏وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيّ‏}‏ يواليهم ‏{‏وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ ينصرهم‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن كعب بن مالك، قال‏:‏ لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين قال الجلاس‏:‏ والله لئن كان هذا الرجل صادقاً لنحن شرّ من الحمير، فسمعها عمير بن سعد، فقال‏:‏ والله يا جلاس إنك لأحب الناس إليّ وأحسنهم عندي أثراً، وأعزّهم عليّ أن يدخل عليه شيء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك، ولئن سكت عنها لتهلكني، ولإحداهما أشدّ عليّ من الأخرى، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له ما قال الجلاس، فحلف بالله ما قال ولكن كذب عليّ عمير، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أنس بن مالك قال‏:‏ سمع زيد بن أرقم رجلاً من المنافقين يقول والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب‏:‏ إن كان هذا صادقاً لنحن شرّ من الحمير؛ قال زيد‏:‏ هو والله صادق، وأنت شرّ من الحمار، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجحد القائل، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلّ شجرة فقال‏:‏ ‏"‏ إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاءكم فلا تكلموه ‏"‏، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ علام تشتمني أنت وأصحابك ‏"‏، فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم، وأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن رجلين اقتتلا، أحدهما من جهينة والآخر من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فظهر الغفاري على الجهني، فقال عبد الله بن أبيّ للأوس‏:‏ انصروا أخاكم، والله، ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل‏:‏ «سمن كلبك يأكلك» والله ‏{‏لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله‏}‏ الآية، وفي الباب أحاديث مختلفة في سبب نزول هذه الآية، وفيما ذكرناه كفاية‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ‏}‏ قال‏:‏ همّ رجل يقال له الأسود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ‏}‏ قال‏:‏ أرادوا أن يتوّجوا عبد الله بن أبيّ بتاج‏.‏ وأخرج ابن ماجه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، قال‏:‏ قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ديته اثني عشر ألفاً، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ‏}‏ قال‏:‏ بأخذهم الدية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 79‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏‏}‏

اللام الأولى، وهي ‏{‏لَئِنْ ءاتانا‏}‏ الله ‏{‏مِن فَضْلِهِ‏}‏ لام القسم، واللام الثانية، وهي ‏{‏لَنَصَّدَّقَنَّ‏}‏ لام الجواب للقسم والشرط‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏لَنَصَّدَّقَنَّ‏}‏ لنخرج الصدقة، وهي أعمّ من المفروضة وغيرها ‏{‏وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين‏}‏ أي‏:‏ من جملة أهل الصلاح من المؤمنين القائمين بواجبات الدّين التاركين لمحرّماته ‏{‏فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ أي‏:‏ لما أعطاهم ما طلبوا من الرزق بخلوا به‏:‏ أي بما آتاهم من فضله، فلم يتصدّقوا بشيء منه كما حلفوا به ‏{‏وَتَوَلَّواْ‏}‏ أي‏:‏ أعرضوا عن طاعة الله وإخراج صدقات ما أعطاهم الله من فضله، والحال أنهم ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ في جميع الأوقات قبل أن يعطيهم الله ما أعطاهم من الرزق وبعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ‏}‏ الفاعل‏:‏ هو الله سبحانه، أي فأعقبهم الله بسبب البخل الذي وقع منهم والإعراض، نفاقاً كائناً في قلوبهم، متمكناً منها، مستمراً فيها ‏{‏إلى يوم يلقون‏}‏ الله عزّ وجلّ، وقيل‏:‏ إن الضمير يرجع إلى البخل، أي فأعقبهم البخل بما عاهدوا الله عليه نفاقاً كائناً في قلوبهم إلى يوم يلقون بخلهم‏:‏ أي جزاء بخلهم‏.‏ ومعنى ‏{‏فَأَعْقَبَهُمْ‏}‏‏:‏ أن الله سبحانه جعل النفاق المتمكن في قلوبهم إلى تلك الغاية عاقبة ما وقع منهم من البخل، والباء في ‏{‏بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ‏}‏ للسببية، أي بسبب إخلافهم لما وعدوه من التصدّق والصلاح، وكذلك الباء في ‏{‏وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ وبسبب تكذيبهم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم أنكر عليهم فقال ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ‏}‏ أي المنافقون، وقرئ بالفوقية خطاباً للمؤمنين ‏{‏أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ جميع ما يسرونه من النفاق، وجميع ما يتناجون به فيما بينهم من الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه، وعلى دين الإسلام ‏{‏وَأَنَّ الله علام الغيوب‏}‏ فلا يخفى عليه شيء من الأشياء المغيبة كائناً ما كان، ومن جملة ذلك ما يصدر عن المنافقين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين يَلْمِزُونَ المطوعين‏}‏ الموصول محله النصب، أو الرفع على الذم، أو الجرّ بدلاً من الضمير في سرّهم ونجواهم، ومعنى ‏{‏يَلْمِزُونَ‏}‏ يعيبون‏.‏ وقد تقدّم تحقيقه، والمطوّعين‏:‏ أي المتطوّعين، والتطوّع‏:‏ التبرّع‏.‏ والمعنى‏:‏ أن المنافقين كانوا يعيبون المسلمين إذا تطوّعوا بشيء من أموالهم وأخرجوه للصدقة، فكانوا يقولون‏:‏ ما أغنى الله عن هذا، ويقولون‏:‏ ما فعلوا هذا إلا رياء، ولم يكن لله خالصاً، و‏{‏فِي الصدقات‏}‏ متعلق بيلمزون‏:‏ أي يعيبونهم في شأنها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ‏}‏ معطوف على المطوّعين‏:‏ أي يلمزون المتطوّعين، ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم؛ وقيل‏:‏ معطوف على المؤمنين‏:‏ أي يلمزون المتطوّعين من المؤمنين، ومن الذين لا يجدون إلا جهدهم، وقرئ «جهدهم» بفتح الجيم، والجهد بالضم الطاقة، وبالفتح المشقة، وقيل‏:‏ هما لغتان ومعناهما واحد، وقد تقدّم بيان ذلك‏.‏

والمعنى‏:‏ أن المنافقين كانوا يعيبون فقراء المؤمنين الذين كانوا يتصدّقون بما فضل عن كفايتهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏}‏ معطوف على يلمزون‏:‏ أي يستهزءون بهم لحقارة ما يخرجونه في الصدقة مع كون ذلك جهد المقلّ، وغاية ما يقدر عليه ويتمكن منه، قوله‏:‏ ‏{‏سَخِرَ الله مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ جازاهم على ما فعلوه من السخرية بالمؤمنين بمثل ذلك، فسخر الله منهم بأن أهانهم وأذلهم وعذبهم، والتعبير بذلك من باب المشاكلة كما في غيره‏.‏ وقيل‏:‏ هو دعاء عليهم بأن يسخر الله بهم كما سخروا بالمسلمين ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ ثابت مستمر شديد الألم‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والعسكري في الأمثال، والطبراني، وابن منده، والبارودي، وأبو نعيم، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر، عن أبي أمامة الباهلي قال‏:‏ جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، قال‏:‏ «ويلك يا ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه» قال‏:‏ يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالاً، قال‏:‏ «ويحك يا ثعلبة‏:‏ أما تحبّ أن تكون مثلي، فلو شئت أن يسير ربي هذه الجبال معي ذهباً لسارت»، فقال‏:‏ يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فوالذي بعثك بالحق إن آتاني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، قال‏:‏ «ويحك يا ثعلبة، قليل تطيق شكره خير من كثير لا تطيقه»، قال‏:‏ يا رسول الله، ادع الله تعالى‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهمّ ارزقه مالاً»؛ قال‏:‏ فاتخذ غنماً فنمت كما تنمو الدود حتى ضاقت بها المدينة، فتنحى بها، فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يشهدها بالليل، ثم نمت كما تنمو الدود فتنحى بها، فكان لا يشهد الصلاة بالليل ولا بالنهار إلا من جمعة إلى جمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نمت كما تنمو الدود فضاق بها مكانه، فتنحى بها فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الأخبار، وفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه، فأخبروه أنه اشترى غنماً، وأن المدينة ضاقت به وأخبروه خبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ويح ثعلبة بن حاطب، ويح ثعلبة بن حاطب»؛ ثم إن الله تعالى أمر رسوله أن يأخذ الصدقات، وأنزل‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ الآية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين، رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سلمة يأخذان الصدقات، وكتب لهما أسنان الإبل والغنم كيف يأخذانها وجوهها، وأمرهما أن يمرّا على ثعلبة بن حاطب، وبرجل من بني سليم، فخرجا فمرا بثعلبة فسألا الصدقة، فقال‏:‏ أرياني كتابكما، فنظر فيه فقال‏:‏ ما هذه إلا جزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى قدما المدينة، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلمهما‏:‏

«ويح ثعلبة بن حاطب»، ودعا للسلميّ بالبركة، وأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله‏}‏ الثلاث الآيات، قال‏:‏ فسمع بعض أقارب ثعلبة، فأتى ثعلبة فقال‏:‏ ويحك يا ثعلبة أنزل فيك كذا وكذا، قال‏:‏ فقدم ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله هذه صدقة مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله قد منعني أن أقبل منك»، فجعل يبكي ويحثي التراب على رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هذا عملك بنفسك، أمرتك فلم تطعني»، فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى، ثم أتى أبا بكر، فقال‏:‏ يا أبا بكر‏:‏ إقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار، فقال أبو بكر‏:‏ لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلها‏؟‏ فلم يقبلها أبو بكر؛ ثم ولي عمر بن الخطاب، فأتاه فقال‏:‏ يا أبا حفص يا أمير المؤمنين اقبل مني صدقتي، قال‏:‏ ويثقل عليه بالمهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر‏:‏ لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر أقبلها أنا‏؟‏ فأبى أن يقبلها؛ ثم ولي عثمان فسأله أن يقبل صدقته، فقال‏:‏ لم يقبلها رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك‏؟‏ فلم يقبلها منه، فهلك في خلافة عثمان، وفيه نزلت‏:‏ ‏{‏الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصدقات‏}‏ قال‏:‏ وذلك في الصدقة، وهذا الحديث هو مرويّ من حديث معاذ بن رفاعة، عن عليّ بن زيد، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى عبد الله بن يزيد بن معاوية، عن أبي أمامة الباهلي‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله‏}‏ الآية، وذلك أن رجلاً كان يقال له ثعلبة من الأنصار أتى مجلساً فأشهدهم فقال‏:‏ لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه، وتصدّقت منه، وجعلت منه للقرابة؛ فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف ما وعده، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده، فقص الله شأنه في القرآن‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، أن رجلاً من الأنصار هو الذي قال هذا، فمات ابن عمّ له فورث منه مالاً فبخل به، ولم يف بما عاهد الله عليه، فأعقبه بذلك نفاقاً في قلبه إلى أن يلقاه‏.‏ قال ذلك ‏{‏بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، عن ابن مسعود، قال‏:‏ لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدّق بشيء كثير، فقالوا‏:‏ مراء؛ وجاء أبو عقيل بنصف صاع، فقال المنافقون‏:‏ إن الله لغنيّ عن صدقة هذا، فنزلت‏:‏ ‏{‏الذين يَلْمِزُونَ المطوعين‏}‏ الآية، وفي الباب روايات كثيرة‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏الذين يَلْمِزُونَ المطوعين‏}‏ أي‏:‏ يطعنون على المطوّعين‏.‏